فصل: أسئلة وأجوبة دقيقة لابن عرفة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

تفريع عن حكم العفو لأن العفو يقتضي شكر الله على أن أنجاهُ بشرع جواز العفو وبأن سخر الولي للعفو، ومن الشكر ألاّ يعود إلى الجناية مرة أخرى، فإن عاد فله عذاب أليم، وقد فسر الجمهور العذاب الأليم بعذاب الآخرة والمراد تشديد العذاب عليه كقوله تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة: 95]، ثم له من حكم العفو والدية ما للقاتل ابتداء عندهم، وفسره بعضهم بعذاب الدنيا أعني القتل فقالوا: إن عاد المعفو عنه إلى القتل مرة أخرى فلابد من قتله ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ونقلوا ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي ورواه أبو داود عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه موكول إلى اجتهاد الإمام.
والذي يستخلص من أقوالهم هنا سواء كان العذاب عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا أن تكرر الجناية يوجب التغليظ وهو ظاهر من مقاصد الشارع؛ لأن الجناية قد تصير له دُربة فعَوْده إلى قتل النفس يؤذن باستخفافه بالأنفس فيجب أن يُراح منه الناس، وإلى هذا نظر قتادة ومن معه، غير أن هذا لا يمنع حكم العفو إن رضي به الولي؛ لأن الحق حقه، وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز بتفويضه إلى الإمام لينظر هل صار هذا القاتل مِزْهَقَ أَنْفُس، وينبغي إن عُفي عنه أن تشدد عليه العقوبة أكثر من ضرب مائة وحَبس عام وإن لم يقولوه؛ لأن ذكر الله هذا الحكمَ بعد ذكر الرحمة دليلٌ على أن هذا الجاني غير جدير في هاته المرة بمزيد الرحمة، وهذا موضع نظر من الفقه دقيق، قد كان الرجل في الجاهلية يقتل ثم يدفع الدية ثم يغدره ولي الدم فيقتله. اهـ.

.إشكال وجوابه لابن عاشور:

ما وجه تخصيص الأنثى بعد قوله تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد}؟ وهل تخرج الأنثى عن كونها حرة أو أمة بعد ما تبين أن المراد بالحر والعبد الجنسان؛ إذ ليس صيغة الذكور فيها للاحتراز عن النساء منهم؛ فإن ال لمّا صيرته اسم جنس صار الحكم على الجنس وبطل ما فيه من صيغة تأنيث كما يبطل ما فيه من صيغة جمع إن كانت فيه.
ولأجل هذا الإشكال سألت العلامة الجد الوزير رحمه الله عن وجه مجيء هذه المقابلة المشعرة بألا يقتص من صنف إلاّ لقتل مماثله في الصفة فترك لي ورقة بخطه فيها ما يأتي: الظاهر والله تعالى أعلم أن الآية يعني آية سورة المائدة نزلت إعلامًا بالحكم في بني إسرائيل تأنيسًا وتمهيدًا لحكم الشريعة الإسلامية، ولذلك تضمنت إناطة الحكم بلفظ النفس المتناول للذكر والأنثى الحر والعبد الصغير والكبير، ولم تتضمن حكمًا للعبيد ولا للإناث، وصدرت بقوله: {وكتبنا عليهم فيها} [المائدة: 45]، والآية الثانية يعني آية سورة البقرة صدرت بقوله: {كتب عليكم} وناط الحكم فيها بالحرية المتناولة للأصناف كلها ثم ذكر حكم العبيد والأناث ردًا على من يزعم أنه لا يقتص لهم، وخصص الأنثى بالأنثى للدلالة على أن عدمها معصوم، وذلك لأنه إذا اقتص لها من الأنثى ولم يقتص لها من الذكر صار الدم معصومًا تارة لذاته غير معصوم أخرى وهذا من لطف التبليغ حيث كان الحكم متضمنًا لدليله، فقوله:
كتب القتل والقتال علينا ** وعلى الغانيات جر الذيول

حكم جاهلي. اهـ.
يعني أن الآية لم يقصد منها إلاّ إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من ترك القصاص لشرف أو لقلة اكتراث، فقصدت التسوية بقوله: {الحر بالحر والعبد بالعبد} أي لا فضل لحر شريف على حر ضعيف ولا لعبيد السادة على عبيد العامة وقصدت من ذكر الأنثى إبطال ما كان عليه الجاهلية من عدم الاعتداد بجناية الأنثى واعتبارها غير مؤاخذة بجناياتها، وأراد بقوله: حكم جاهلي أنه ليس جاريًا على أحكام الإسلام؛ لأن البيت لعمر ابن أبي ربيعة وهو شاعر إسلامي من صدر الدولة الأموية.
فإن قلت: كان الوجه ألا يقول: {بالأنثى} المشعر بأن الأنثى لا تقتل بالرجل مع إجماع المسلمين على أن المرأة يقتص منها للرجل. قلت: الظاهر أن القيد خرج مخرج الغالب، فإن الجاري في العرف أن الأنثى لا تقتل إلاّ أنثى، إذ لا يتثاور الرجال والنساء فذكر {بالأنثى} خارج على اعتبار الغالب كمخرج وصف السائمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «في الغنم السائمة الزكاة» والخلاصة أن الآية لا يلتئم منها معنى سليم من الإشكال إلاّ معنى إرادة التسوية بين الأصناف لقصد إبطال عوائد الجاهلية. اهـ.
سؤال: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} هذه الآية تدل بظاهرها على أن القصاص أمر حتم لابد منه بدليل قوله تعالى كتب عليكم لأن معناه فرض وحتم عليكم مع أنه تعالى ذكر أيضا أن القصاص ليس بمتعين لأن ولي الدم بالخيار في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآية. والجواب ظاهر وهو أن فرض القصاص إلزامه فيما إذا لم يعف أولياء الدم أو بعضهم، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} الآية. اهـ.

.أسئلة وأجوبة دقيقة لابن عرفة:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص}.
قال ابن عرفة: الخطاب للمؤمنين.
فإن قلنا: إنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟
فنقول: إنما عين المؤمنين هنا لما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية. قال: كتب بمعنى فرض أو كتب في اللوح المحفوظ.
وأورد الشيخ ابن العربي هنا سؤالا قال: كيف يفهم الكتب بمعنى الفرض مع أن القصاص غير واجب؟
قال ابن عرفة: والجواب أنّا إذا اعتبرنا جهة المجني عليه ووليه فالقصاص غير واجب لأنه مخير بين القصاص وأخذ الدية، وإذا راعينا جهة الجاني فالقصاص غير واجب. إن طلب الولي الدية، وهذا بخلاف الدين فإنّ رب الدّين إذا أسقط دينه وامتنع من أخذه وأبى ذلك المديون فإنه يجبر رب المال على أخذ دينه، ولذلك إذا حلف أنه لا يأخذه وحلف المديون أنه لايحبسه فأنه يحنث رب المال وما ذاك إلا لحفظ النفوس، بخلاف الأموال فإن المديان يقول له: لا أقبل مزيتك ولا أحبها.
قال ابن عرفة في هذا: والقصاص فعال لأنه يفعل كما فعل له كالاتباع سواء لأنه يفعل كفعل المتبع.
قال ابن العربي: واحتج بها الحنفية على أن المسلم يقتل بالكافر لقولهم: {الحر بالحر} فعمم ولم يقيد ولو كان بينهما فرق لبينه.
وأجيب بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ولا أخوة بين المسلم والكافر إلا أن يريد بالأخوة الصحبة فحينئذ لايزال السؤال واردا. لكن يجاب بما قال الفخر الرازي في المحصول في قوله تعالى: {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة} قال: المراد نفي مطلق المساواة في الخلود وغيره فاحتج به الشافعي على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر.
قال: والأعم لا إشعار له بالأخص.
قال ابن عرفة: ورد عليه بعضهم بأنه لا يستوي فعل في سياق النّفي فيعم لأن نفي الأعم أخص من نفي الأخص فنقول تلك الآية دلت على نفي مساواة بينهما فلا يقتل المسلم بالكافر.
قال الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي: قال الكوفيون والثوري: يقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر الذمّي.
واحتجّوا بهذه الآية. قالوا: الذّمي مع الحر متساويان في حرمة الدم على التأبيد بدليل أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي كمال المسلم فيتساويان في الذّم إذ المال إنما يحترم بحرمة مالكه.
قال ابن عرفة: يقال: إنّما قطع في المال لأنه من فساد الأرض بدليل قول مالك: إن الكافر إذا سرق من مال المسلم فإنما تقطع يده، وإذا زنا بالمسلمة طائعة فإنه لا يحد وما ذلك إلا لأنّ أخذ المال من الفساد في الأرض بخلاف الزنا.
قال ابن عرفة: وقولهم في العبد إذا جنى جناية وقطع يد المسلم إنّ سيده مخيّر، فله أن يسلمه في الجناية مع أنه يبقى سليما في بدنه.
والصواب كان في عقوبته أن تقطع يده لأن إسلامه في الجناية كبيعه، فما يظلم بذلك إلاّ سيّده وأما هو فلم يقع عليه عقاب ولا حد يرتدع به بوجه.
وغلط الزمخشري هنا في نقله عن الإمام مالك رضي الله عنه لأنه قال: مذهب مالك والشافعي أن الحر لا يقتل بالعبد، والذكر لا يقتل بالأنثى. أخذ بهذه الآية.
واختلفوا في هذه الآية فقيل: إنها منسوخة بآية المائدة وقيل مجملة وتلك مبينة لها.
وقال ابن العربي: تلك مجملة وهذه مبنية لها. اهـ.

.بحث علمي في القصاص:

كانت العرب أوان نزول آية القصاص وقبله تعتقد القصاص بالقتل لكنها ما كانت تحده بحد وإنما يتبع ذلك قوة القبائل وضعفها فربما قتل الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فسلك في القتل مسلك التساوي وربما قتل العشرة بالواحد والحر بالعبد والرئيس بالمرءوس وربما أبادت قبيلة قبيلة أخرى لواحد قتل منها.
وكانت اليهود تعتقد القصاص كما ورد في الفصل الحادي والعشرين والثاني والعشرين من الخروج والخامس والثلاثين من العدد، وقد حكاه القرآن حيث قال تعالى: {وكتبنا لهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} المائدة- 45.
وكانت النصاري على ما يحكى لا ترى في مورد القتل إلا العفو والدية، وسائر الشعوب والأمم على اختلاف طبقاتهم ما كانت تخلو عن القصاص في القتل في الجملة وإن لم يضبطه ضابط تام حتى القرون الأخيرة.
والإسلام سلك في ذلك مسلكا وسطا بين الإلغاء والإثبات فأثبت القصاص وألغى تعينه، بل أجاز العفو والدية ثم عدل القصاص بالمعادلة بين القاتل والمقتول، فالحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى.
وقد اعترض على القصاص مطلقا وعلى القصاص بالقتل خاصة بأن القوانين المدنية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جوازها وإجرائها بين البشر اليوم.
قالوا: إن القتل بالقتل مما يستهجنه الإنسان وينفر عنه طبعه ويمنع عنه وجدانه إذا عرض عليه رحمة وخدمة للإنسانية، وقالوا: إذا كان القتل الأول فقدا لفرد فالقتل الثاني فقد على فقد، وقالوا: إن القتل بالقصاص من القسوة وحب الانتقام، وهذه صفة يجب أن تزاح عن الناس بالتربية العامة ويؤخذ في القاتل أيضا بعقوبة التربيه، وذلك إنما يكون بما دون القتل من السجن والأعمال الشاقة، وقالوا: إن المجرم إنما يكون مجرما إذا كان مريض العقل فالواجب أن يوضع القاتل المجرم في المستشفيات العقلية ويعالج فيها، وقالوا إن القوانين المدنية تتبع الاجتماع الموجود، ولما كان الاجتماع غير ثابت على حال واحد كانت القوانين كذلك فلا وجه لثبوت القصاص بين الاجتماع للأبد حتى الاجتماعات الراقيه اليوم، ومن اللازم أن يستفيد الاجتماع من وجود أفرادها ما استيسر، ومن الممكن أن يعاقب المجرم بما دون القتل مما يعادل القتل من حيث الثمرة والنتيجة كحبس الأبد أو حبس مدة سنين وفيه الجمع بين حقين حق المجتمع وحق أولياء الدم، فهذه الوجوه عمدة ما ذكره المنكرون لتشريع القصاص بالقتل.
وقد أجاب القرآن عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة، وهي قوله تعالى: {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} [المائدة- 32].
بيان ذلك: أن القوانين الجارية بين أفراد الإنسان وإن كانت وضعية اعتبارية يراعى فيها مصالح الاجتماع الإنساني غير أن العلة العاملة فيها من أصلها هي الطبيعة الخارجية الإنسانية الداعية إلى تكميل نقصها ورفع حوائجها التكوينية، وهذه الواقعية الخارجية ليست هي العدد العارض على الإنسان ولا الهيئة الواحدة الاجتماعية فإنها نفسها من صنع الوجود الكوني الإنساني بل هي الإنسان وطبيعته، وليس بين الواحد من الإنسان والألوف المجتمعة منه فرق في أن الجميع إنسان ووزن الواحد والجميع واحد من حيث الوجود.
وهذه الطبيعة الوجودية تجهزت في نفسها بقوى وأدوات تدفع بها عن نفسها العدم لكونها مفطورة على حب الوجود، وتطرد كل ما يسلب عنه الحياة بأي وسيلة أمكنت وإلى أي غاية بلغت حتى القتل والإعدام، ولذا لا تجد إنسانا لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله ولا ينتهي عنه إلا به، وهذه الأمم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعا عن استقلالهم وحريتهم وقوميتهم، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها، ويدفعون عن بطلان القانون بالغا ما بلغ حتى بالقتل ويتوسلون إلى حفظ منافعهم بالحروب إذا لم يعالج الداء بغيرها، تلك الحروب التي فيها فناء الدنيا وهلاك الحرث والنسل ولا يزال ملل يتقدمون بالتسليحات وآخرون يتجهزون بما يجاوبهم، وليس ذلك كله إلا رعاية لحال الاجتماع وحفظا لحياته وليس الاجتماع إلا صنيعة من صنايع الطبيعة فما بال الطبيعة تجوز القتل الذريع والإفناء والإبادة لحفظ صنيعة من صنائعها، وهي الاجتماع المدني ولا تجوزها لحفظ حياة نفسها؟ وما بالها تجوز قتل من يهم بالقتل ولم يفعل ولا تجوزه فيمن هم وفعل؟ وما بال الطبيعة تقضي بالانعكاس في الوقائع التاريخية، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولكل عمل عكس عمل في قانونها لكنها تعد القتل في مورد القتل ظلما وتنقض حكم نفسها.
على أن الإسلام لا يرى في الدنيا قيمة للإنسان يقوم بها ولا وزنا يوزن به إلا إذا كان على دين التوحيد فوزن الاجتماع الإنساني ووزن الموحد الواحد عنده سيان، فمن الواجب أن يكون حكمهما عنده واحدا، فمن قتل مؤمنا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر إزرائه وهتكه لشرف الحقيقة كما أن من قتل نفسا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر الطبيعة الوجودية، وأما الملل المتمدنة فلا يبالون بالدين ولو كانت شرافة الدين عندهم تعادل في قيمتها أو وزنها- فضلا عن التفوق- الاجتماع المدني في الفضل لحكموا فيه بما حكموا في ذلك.
على أن الإسلام يشرع للدنيا لا لقوم خاص وأمة معينة، والملل الراقية إنما حكمت بما حكمت بعد ما أذعنت بتمام التربية في أفرادها وحسن صنيع حكوماتها ودلالة الإحصاء في مورد الجنايات والفجائع على أن التربية الموجودة مؤثرة وأن الأمة في أثر تربيتهم متنفرة عن القتل والفجيعة فلا تتفق بينهم إلا في الشذوذ وإذا اتفقت فهي ترتضي المجازاة بما دون القتل، والإسلام لا يأبى عن تجويز هذه التربية وأثرها الذي هو العفو مع قيام أصل القصاص على ساق.
ويلوح إليه قوله تعالى: في آية القصاص {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}، فاللسان لسان التربية وإذا بلغ قوم إلى حيث أذعنوا بأن الفخر العمومي في العفو لم ينحرفوا عنه إلى مسلك الانتقام.
وأما غير هؤلاء الأمم فالأمر فيها على خلاف ذلك والدليل عليه ما نشاهده من حال الناس وأرباب الفجيعة والفساد فلا يخوفهم حبس ولا عمل شاق ولا يصدهم وعظ ونصح، وما لهم من همة ولا ثبات على حق إنساني، والحياة المعدة لهم في السجون أرفق وأعلى وأسنى مما لهم في أنفسهم من المعيشة الردية الشقية فلا يوحشهم لوم ولا ذم، ولا يدهشهم سجن ولا ضرب، وما نشاهده أيضا من ازدياد عدد الفجائع في الإحصاءات يوما فيوما فالحكم العام الشامل للفريقين- والأغلب منهما الثاني- لا يكون إلا القصاص وجواز العفو فلو رقت الأمة وربيت تربية ناجحة أخذت بالعفو وإلاسلام لا يألو جهده في التربية ولو لم يسلك إلا الانحطاط أو كفرت بأنعم ربها وفسقت، أخذ فيهم بالقصاص ويجوز معه العفو.
وأما ما ذكروه من حديث الرحمة والرأفة بالإنسانية فما كل رأفة بمحمودة ولا كل رحمة فضيلة، فاستعمال الرحمة في مورد الجاني القاسي والعاصي المتخلف المتمرد والمتعدي على النفس والعرض جفاء على صالح الأفراد، وفي استعمالها المطلق اختلال النظام وهلاك الإنسانية وإبطال الفضيلة.
وأما ما ذكروه أنه من القسوة وحب الانتقام فالقول فيه كسابقه، فالانتقام للمظلوم من ظالمه استظهارا للعدل والحق ليس بمذموم قبيح، ولا حب العدل من رذائل الصفات، على أن تشريع القصاص بالقتل غير ممحض في الانتقام بل فيه ملاك التربية العامة وسد باب الفساد.
وأما ما ذكروه من كون جناية القتل من الأمراض العقلية التي يجب أن يعالج في المستشفيات فهو من الأعذار ونعم العذر الموجبة لشيوع القتل والفحشاء ونماء الجناية في الجامعة الإنسانية وأي إنسان منا يحب القتل والفساد علم أن ذلك فيه مرض عقلي وعذر مسموع يجب على الحكومة أن تعالجه بعناية ورأفة وأن القوة الحاكمة والتنفيذية تعتقد فيه ذلك لم يقدم معه كل يوم على قتل.
وأما ما ذكروه من لزوم الاستفادة من وجود المجرمين بمثل الأعمال الإجبارية، ونحوها مع حبسهم ومنعهم عن الورود في الاجتماع فلو كان حقا متكئا على حقيقة فما بالهم لا يقضون بمثله في موارد الإعدام القانوني التي توجد في جميع القوانين الدائرة اليوم بين الأمم؟ وليس ذلك إلا للأهمية التي يرونها للإعدام في موارده، وقد مر أن الفرد والمجتمع في نظر الطبيعة من حيث الأهمية متساويان. اهـ.